مواقف من السيرة النبوية
كنت وما زلت أرى أن الأحداث والقصص التي اشتملت عليها
كتب السيرة النبوية هي أكثر الأحداث التي تتفاخر بها العقول
وتتسامق لها الأعناق لما تحتويه من مآثر وفضائل لم تظهر
في الأمم السابقة ولن يتكرر مثيلها في أي أمة أخرى أو في
زمن آخر.
وهنا سوف أتحدث عن بعض أعظم المواقف التي تأثر بها قلبي
ووجداني والتي تشرفت بقراءتها وسماعها وأثارت في نفسي
فيضا زاخرا من المشاعر الوجدانية والأحاسيس القلبية لا يمكن
أن يتجاوزها يراعي ولساني عند الحديث عن المواقف المؤثرة
ومن هذه المواقف :
ما حصل في شهر شوال في السنة العاشرة من النبوة حيث خرج
الحبيب المصطفى إلى الطائف يلتمس من ثقيف أن تـُعضِّد دعوة
الحق الذي جاء بها لينتشلهم من ذل الكفر والعبودية إلى عز الإيمان
والحرية ، فأبى زعمائهم هذا الخير بعقولهم المتبلدة ومكابرتهم
العمياء ، ولم يكتفوا بذلك بل أغروا سفهاءهم وصبيانهم ليجلسوا
له على الطريق ويرموه بالحجارة حتى سالت قدماه الشريفتان
بالدماء في موقف تتفطـَّر له القلوب وترتعد له ألأفئدة . وهو يمضي
في ثبات ويقين حتى دخل حائط من حوائطهم أي بستان من
بساتينهم وجلس تحت شجرة يناجي ربه بكلمات عذبة رقيقة لا يرقى
إلى قولها جهابذة اللغة وأئمة البلاغة .. كيف لا وهو إمام البلغاء
وسيد الفصحاء .
أسمعه في هذه المناجاة التي تلين لِرقـَّة كلماتها أعتى الصخور وتسيل
لضراعتها الدموع من المآقي والعيون ، ويتلذذ بسماعها كل قلبٍ مرهفٍ
وفؤادٍ حنون
{ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلت حيلتي ، وهواني على
الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى
من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدوّ ملـّكته أمري ؟ إن لم
يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ
بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلـُح عليه أمر الدنيا
والآخرة من أن تـُنزل بي غضبك ، أو يحل عليّ سخطك ، لك العُتبى
حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك } .
ما أعظم هذه الكلمات الراقية والعبارات الصادقة التي يجب أن تكتب بماء
من ذهب على صفحات من فضة لاشتمالها على شكوى لا يخالطها تأفف
أو تبرّم بل يشع منها صدق اليقين وقمة التذلل لخالقه عزّ وجل .. فغاية
جَهده ومناه هو رضاءه عنه ، لا يصرفه عن ذلك كل الأخطار والعوائق
التي تعترض هدفه وغايته دون أن يزيغ قلبه عن الرحمة والرأفة التي
أودعها الله سبحانه وتعالى فيه ، فها هو يعفو عن من قذفوه بأيديهم
وشتموه بألسنتهم بعد أن سمع الله عز وجل مناجاته وأرسل إليه ملـَك
الجبال ليطبق عليهم وينتقم منهم فيقول وقد تجلـّت إنسانيته { بل أرجو
أن يخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله تعالى } فما أجلك وأحلمك وأعظمك
يا رسول الله فقد كنت وما زلت كما وصفك ربك الكريم رؤوف رحيم .